Pages

الواجب على ولاة الأمور من المسلمين من كلام ابن القيم رحمه الله تعالى



الواجب على ولاة الأمور من المسلمين
 مختارات من كتاب الطرق الحكمية لابن القيم


قال ابن القيم في الطرق الحكمية [ 2 / 625 وما بعدها ط عالم الفوائد ] :

وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَلِيِّ أَمْرٍ أَنْ يَسْتَعِينَ فِي وِلَايَتِهِ بِأَهْلِ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ، وَالْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ كَذِبٌ وَفُجُورٌ، فَـ [  إنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ ]  وَ [  بِأَقْوَامٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ ] .
قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: [  مَنْ قَلَّدَ رَجُلًا عَلَى عِصَابَةٍ، وَهُوَ يَجِدُ فِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ ] .
وَالْغَالِبُ : أَنَّهُ لَا يُوجَدُ الْكَامِلُ فِي ذَلِكَ ، فَيَجِبُ تَحَرِّي خَيْرِ الْخَيْرَيْنِ ، وَدَفْعُ شَرِّ الشَّرَّيْنِ.
 وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَفْرَحُونَ بِانْتِصَارِ الرُّومِ وَالنَّصَارَى عَلَى الْمَجُوسِ عُبَّادِ النَّارِ؛ لِأَنَّ النَّصَارَى أَقْرَبُ إلَيْهِمْ مِنْ أُولَئِكَ.
 وَكَانَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَائِبًا لِفِرْعَوْنَ مِصْرَ، وَهُوَ وَقَوْمُهُ مُشْرِكُونَ، وَفَعَلَ مِنْ الْخَيْرِ وَالْعَدْلِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَدَعَا إلَى الْإِيمَانِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.

وقال  : وَجَمِيعُ هَذِهِ الْوِلَايَاتِ فِي الْأَصْلِ وِلَايَاتٌ دِينِيَّةٌ، وَمَنَاصِبُ شَرْعِيَّةٌ، فَمَنْ عَدَلَ فِي وِلَايَةٍ مِنْ هَذِهِ الْوِلَايَاتِ، وَسَاسَهَا بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ، وَأَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَهُوَ مِنْ الْأَبْرَارِ الْعَادِلِينَ.
 وَمَنْ حَكَمَ فِيهَا بِجَهْلٍ وَظُلْمٍ، فَهُوَ مِنْ الظَّالِمِينَ الْمُعْتَدِينَ ، وَ {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}

وقال  : فَعَلَى مُتَوَلِّي الْحِسْبَةِ أَنْ يَأْمُرَ الْعَامَّةَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي مَوَاقِيتِهَا.

 وَيُعَاقِبَ مَنْ لَمْ يُصَلِّ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ , وَأَمَّا الْقَتْلُ : فَإِلَى غَيْرِهِ.

 وَيَتَعَاهَدُ الْأَئِمَّةَ وَالْمُؤَذِّنِينَ ، فَمَنْ فَرَّطَ مِنْهُمْ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ الْأُمَّةِ وَخَرَجَ عَنْ الْمَشْرُوعِ أَلْزَمَهُ بِهِ، وَاسْتَعَانَ فِيمَا يَعْجَزُ عَنْهُ بِوَالِي الْحَرْبِ وَالْقَاضِي.
وَاعْتِنَاءُ وُلَاةِ الْأُمُورِ بِإِلْزَامِ الرَّعِيَّةِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ أَهَمُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنَّهَا عِمَادُ الدِّينِ، وَأَسَاسُهُ وَقَاعِدَتُهُ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَكْتُبُ إلَى عُمَّالِهِ: [  إنَّ أَهَمَّ أَمْرِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ، فَمَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا كَانَ لِمَا سِوَاهَا أَشَدُّ إضَاعَةً ]

 وَيَأْمُرُ وَالِي الْحِسْبَةِ بِالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ، وَالنُّصْحِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ.

 وَيَنْهَى عَنْ الْخِيَانَةِ، وَتَطْفِيفِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَالْغِشِّ فِي الصِّنَاعَاتِ وَالْبِيَاعَاتِ.

 وَيَتَفَقَّدُ أَحْوَالَ الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ، وَأَحْوَالِ الصُّنَّاعِ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ الْأَطْعِمَةَ وَالْمَلَابِسَ وَالْآلَاتِ.
 فَيَمْنَعُهُمْ مِنْ صِنَاعَةِ الْمُحَرَّمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، كَآلَاتِ الْمَلَاهِي، وَثِيَابِ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ.
 وَيَمْنَعُ مِنْ اتِّخَاذِ أَنْوَاعِ الْمُسْكِرَاتِ.

 وَيَمْنَعُ صَاحِبَ كُلِّ صِنَاعَةٍ مِنْ الْغِشِّ فِي صِنَاعَتِهِ.

وَيَمْنَعُ مِنْ إفْسَادِ نَقْدِ النَّاسِ وَتَغْيِيرِهَا.

 وَيَمْنَعُ مِنْ جَعْلِ النُّقُودِ مَتْجَرًا، فَإِنَّهُ بِذَلِكَ يُدْخِلُ عَلَى النَّاسِ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ.
 بَلْ الْوَاجِبُ: أَنْ تَكُونَ النُّقُودُ رُءُوسَ أَمْوَالٍ، يَتَّجِرُ بِهَا، وَلَا يَتَّجِرُ فِيهَا، وَإِذَا حَرَّمَ السُّلْطَانُ سِكَّةً أَوْ نَقْدًا مُنِعَ مِنْ الِاخْتِلَاطِ بِمَا أَذِنَ فِي الْمُعَامَلَةِ بِهِ.
وَمُعْظَمُ وِلَايَتِهِ وَقَاعِدَتُهَا: الْإِنْكَارُ عَلَى هَؤُلَاءِ الزَّغَلِيَّةِ، وَأَرْبَابِ الْغِشِّ فِي الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُفْسِدُونَ مَصَالِحَ الْأُمَّةِ، وَالضَّرَرُ بِهِمْ عَامٌّ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ.
 فَعَلَيْهِ أَلَّا يُهْمِلَ أَمْرَهُمْ، وَأَنْ يُنَكِّلَ بِهِمْ وَأَمْثَالِهِمْ، وَلَا يَرْفَعُ عَنْهُمْ عُقُوبَتَهُ.
 فَإِنَّ الْبَلِيَّةَ بِهِمْ عَظِيمَةٌ، وَالْمَضَرَّةَ بِهِمْ شَامِلَةٌ .
وَلَا سِيَّمَا هَؤُلَاءِ الْكِيمَاوِيِّينَ الَّذِينَ يَغُشُّونَ النُّقُودَ وَالْجَوَاهِرَ، وَالْعِطْرَ وَالطِّيبَ وَغَيْرَهَا.

وقال  : وَيَدْخُلُ فِي الْمُنْكَرَاتِ ( يعني التي يجب منعها ) : مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ، مِثْلُ عُقُودِ الرِّبَا، صَرِيحًا وَاحْتِيَالًا، وَعُقُودِ الْمَيْسِرِ، كَبُيُوعِ الْغَرَرِ، وَكَحَبْلِ الْحَبَلَةِ. وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ، وَالنَّجْشِ. وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي السِّلْعَةِ مَنْ لَا يُرِيدُ شِرَاءَهَا، وَتَصْرِيَةِ الدَّابَّةِ اللَّبُونِ، وَسَائِرِ أَنْوَاعِ التَّدْلِيسِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا

وقال  : وَمِنْ الْمُنْكَرَاتِ: تَلَقِّي السِّلَعِ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ إلَى السُّوقِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْرِيرِ الْبَائِعِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْرِفُ السِّعْرَ، فَيَشْتَرِي مِنْهُ الْمُشْتَرِي بِدُونِ الْقِيمَةِ، وَلِذَلِكَ أَثْبَتَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخِيَارَ إذَا دَخَلَ إلَى السُّوقِ، وَلَا نِزَاعَ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ مَعَ الْغَبْنِ . ...

وقال  : وَمِنْ هَذَا: تَلَقِّي سُوقَةِ الْحَجِيجِ الْجَلْبَ مِنْ الطَّرِيقِ، وَسَبَقُهُمْ إلَى الْمَنَازِلِ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ وَالْعَلَفَ، ثُمَّ يَبِيعُونَهُ كَمَا يُرِيدُونَ، فَيَمْنَعُهُمْ وَالِي الْحِسْبَةِ مِنْ التَّقَدُّمِ لِذَلِكَ، حَتَّى يَقْدَمَ الرَّكْبُ،
لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَةِ الرَّكْبِ
، وَمَصْلَحَةِ الْجَالِبِ، وَمَتَى اشْتَرَوْا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مَنَعَهُمْ مِنْ بَيْعِهِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ.

وقال  : وَمِنْ ذَلِكَ: [ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ ]
[ قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ ؟  قَالَ: لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا ]
 وَهَذَا النَّهْيُ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْمُقِيمَ إذَا وَكَّلَهُ الْقَادِمُ فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهَا، وَالْقَادِمُ لَا يَعْرِفُ السِّعْرَ: أَضَرَّ ذَلِكَ بِالْمُشْتَرِي كَمَا أَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَلَقِّي الْجَلْبِ فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْبَائِعِينَ. 

 وَمِنْ ذَلِكَ: الِاحْتِكَارُ لِمَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ ...

وقال : وَمِنْ ذَلِكَ: أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ أَلَّا يَبِيعَ الطَّعَامَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْأَصْنَافِ إلَّا نَاسٌ مَعْرُوفُونَ، فَلَا تُبَاعُ تِلْكَ السِّلَعُ إلَّا لَهُمْ، ثُمَّ يَبِيعُونَهَا هُمْ بِمَا يُرِيدُونَ، فَلَوْ بَاعَ غَيْرُهُمْ ذَلِكَ مُنِعَ وَعُوقِبَ، فَهَذَا مِنْ الْبَغْيِ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ، وَالظُّلْمِ الَّذِي يُحْبَسُ بِهِ قَطْرُ السَّمَاءِ.
 وَهَؤُلَاءِ يَجِبُ التَّسْعِيرُ عَلَيْهِمْ، وَأَلَّا يَبِيعُوا إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ، وَلَا يَشْتَرُوا إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ، بِلَا تَرَدُّدٍ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ.
 لِأَنَّهُ إذَا مَنَعَ غَيْرَهُمْ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ النَّوْعَ أَوْ يَشْتَرِيَهُ، فَلَوْ سَوَّغَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوا بِمَا شَاءُوا أَوْ يَشْتَرُوا بِمَا شَاءُوا: كَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا لِلنَّاسِ: ظُلْمًا لِلْبَائِعِينَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ بَيْعَ تِلْكَ السِّلَعِ، وَظُلْمًا لِلْمُشْتَرِينَ مِنْهُمْ.
فَالتَّسْعِيرُ فِي مِثْلِ هَذَا وَاجِبٌ بِلَا نِزَاعٍ، وَحَقِيقَتُهُ: إلْزَامُهُمْ بِالْعَدْلِ، وَمَنْعُهُمْ مِنْ الظُّلْمِ

وقال : وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ مَتَى لَمْ يَقُمْ بِهَا إلَّا شَخْصٌ وَاحِدٌ صَارَتْ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ النَّاسُ مُحْتَاجِينَ إلَى فِلَاحَةِ قَوْمٍ، أَوْ نِسَاجَتِهِمْ، أَوْ بِنَائِهِمْ، صَارَتْ هَذِهِ الْأَعْمَالُ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِمْ، يَجْبُرُهُمْ وَلِيُّ الْأَمْرِ عَلَيْهَا بِعِوَضِ الْمِثْلِ، وَلَا يُمَكِّنُهُمْ مِنْ مُطَالَبَةِ النَّاسِ بِزِيَادَةٍ عَنْ عِوَضِ الْمِثْلِ، وَلَا يُمَكِّنُ النَّاسَ مِنْ ظُلْمِهِمْ، بِأَنْ يُعْطُوهُمْ دُونَ حَقِّهِمْ.
 كَمَا إذَا احْتَاجَ الْجُنْدُ الْمُرْصَدُونَ لِلْجِهَادِ إلَى فِلَاحَةِ أَرْضِهِمْ وَأَلْزَمَ مَنْ صِنَاعَتُهُ الْفِلَاحَةُ أَنْ يَقُومَ بِهَا: أَلْزَمَ الْجُنْدَ بِأَلَّا يَظْلِمُوا الْفَلَّاحَ، كَمَا يُلْزِمُ الْفَلَّاحَ بِأَنْ يُفْلِحَ.
وَلَوْ اعْتَمَدَ الْجُنْدُ وَالْأُمَرَاءُ مَعَ الْفَلَّاحِينَ: مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَجَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ ، وَفَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ ، لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ، وَلَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
 وَكَانَ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الْمُغَلِّ أَضْعَافَ مَا يُحَصِّلُونَهُ بِالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ .
 وَلَكِنْ يَأْبَى جَهْلُهُمْ وَظُلْمُهُمْ إلَّا أَنْ يَرْتَكِبُوا الظُّلْمَ وَالْإِثْمَ ، فَيُمْنَعُوا الْبَرَكَةَ وَسَعَةَ الرِّزْقِ ، فَيَجْتَمِعُ لَهُمْ عُقُوبَةُ الْآخِرَةِ، وَنَزْعُ الْبَرَكَةِ فِي الدُّنْيَا .
فَإِنْ قِيلَ: وَمَا الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَفَعَلَهُ الصَّحَابَةُ، حَتَّى يَفْعَلَهُ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ؟
قِيلَ: الْمُزَارَعَةُ الْعَادِلَةُ، الَّتِي يَكُونُ الْمُقْطِعُ وَالْفَلَّاحُ فِيهَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ مِنْ الْعَدْلِ، لَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرُّسُومِ الَّتِي مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَهِيَ الَّتِي خَرَّبَتْ الْبِلَادَ وَأَفْسَدَتْ الْعِبَادَ، وَمَنَعَتْ الْغَيْثَ، وَأَزَالَتْ الْبَرَكَاتِ، وَعَرَّضَتْ أَكْثَرَ الْجُنْدِ وَالْأُمَرَاءِ لِأَكْلِ الْحَرَامِ، وَإِذَا نَبَتَ الْجَسَدُ عَلَى الْحَرَامِ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ.
وَهَذِهِ الْمُزَارَعَةُ الْعَادِلَةُ: هِيَ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَهِيَ عَمَلُ آلِ أَبِي بَكْرٍ وَآلِ عُمَرَ، وَآلِ عُثْمَانَ، وَآلِ عَلِيٍّ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ بُيُوتِ الْمُهَاجِرِينَ، وَهِيَ قَوْلُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، كَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِمْ، وَهِيَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ، كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ، وَدَاوُد بْنِ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَهِيَ مَذْهَبُ عَامَّةِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ

وقال : وَمَا احْتَاجَ إلَيْهِ النَّاسُ، حَاجَةً عَامَّةً، فَالْحَقُّ فِيهِ لِلَّهِ، وَذَلِكَ فِي الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ. فَأَمَّا الْحُقُوقُ: فَمِثْلُ حُقُوقِ الْمَسَاجِدِ وَمَالِ الْفَيْءِ وَالْوَقْفِ عَلَى أَهْلِ الْحَاجَاتِ وَأَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ، وَالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ.
وَأَمَّا الْحُدُودُ: فَمِثْلُ حَدِّ الْمُحَارَبَةِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ الْمُسْكِرِ.
وَحَاجَةُ الْمُسْلِمِينَ إلَى الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ، لَيْسَ الْحَقُّ فِيهَا لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ

وقال  في مسألة تسعير السلع : وَجِمَاعُ الْأَمْرِ: أَنَّ مَصْلَحَةَ النَّاسِ إذَا لَمْ تَتِمَّ إلَّا بِالتَّسْعِيرِ ,سَعَّرَ عَلَيْهِمْ تَسْعِيرَ عَدْلٍ، لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، وَإِذَا انْدَفَعَتْ حَاجَتُهُمْ وَقَامَتْ مَصْلَحَتُهُمْ بِدُونِهِ: لَمْ يَفْعَلْ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .

وقال  : وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ اخْتِلَاطَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَالْفُرَجِ، وَمَجَامِعِ الرِّجَالِ.
قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرَضِيَ عَنْهُ: أَرَى لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَى الصُّيَّاغِ فِي قُعُودِ النِّسَاءِ إلَيْهِمْ، وَأَرَى أَلَا يَتْرُكَ الْمَرْأَةَ الشَّابَّةَ تَجْلِسُ إلَى الصُّيَّاغِ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ الْمُتَجَالَّةُ وَالْخَادِمُ الدُّونُ، الَّتِي لَا تُتَّهَمُ عَلَى الْقُعُودِ، وَلَا يُتَّهَمُ مَنْ تَقْعُدُ عِنْدَهُ: فَإِنِّي لَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، انْتَهَى.
فَالْإِمَامُ مَسْئُولٌ عَنْ ذَلِكَ، وَالْفِتْنَةُ بِهِ عَظِيمَةٌ.
 قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [ مَا تَرَكْت بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ ] .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ [ بَاعِدُوا بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ] .
 وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: أَنَّهُ قَالَ لِلنِّسَاءِ: [ لَكُنَّ حَافَّاتُ الطَّرِيقِ ]

وَيَجِبُ عَلَيْهِ مَنْعُ النِّسَاءِ مِنْ الْخُرُوجِ مُتَزَيِّنَاتٍ مُتَجَمِّلَاتٍ.

 وَمَنْعُهُنَّ مِنْ الثِّيَابِ الَّتِي يَكُنَّ بِهَا كَاسِيَاتٍ عَارِيَّاتٍ، كَالثِّيَابِ الْوَاسِعَةِ وَالرِّقَاقِ.

 وَمَنْعُهُنَّ مِنْ حَدِيثِ الرِّجَالِ، فِي الطُّرُقَاتِ، وَمَنْعُ الرِّجَالِ مِنْ ذَلِكَ.

 * وَإِنْ رَأَى وَلِيُّ الْأَمْرِ أَنْ يُفْسِدَ عَلَى الْمَرْأَةِ - إذَا تَجَمَّلَتْ وَتَزَيَّنَتْ وَخَرَجَتْ - ثِيَابَهَا بِحِبْرٍ وَنَحْوِهِ، فَقَدْ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَأَصَابَ، وَهَذَا مِنْ أَدْنَى عُقُوبَتِهِنَّ الْمَالِيَّةِ.

* وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْمَرْأَةَ إذَا أَكْثَرَتْ الْخُرُوجَ مِنْ مَنْزِلِهَا، وَلَا سِيَّمَا إذَا خَرَجَتْ مُتَجَمِّلَةً، بَلْ إقْرَارُ النِّسَاءِ عَلَى ذَلِكَ إعَانَةٌ لَهُنَّ عَلَى الْإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَاَللَّهُ سَائِلٌ وَلِيَّ الْأَمْرِ عَنْ ذَلِكَ.

وَقَدْ مَنَعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - النِّسَاءَ مِنْ الْمَشْيِ فِي طَرِيقِ الرِّجَالِ، وَالِاخْتِلَاطِ بِهِمْ فِي الطَّرِيقِ. فَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ الْخَلَّالُ فِي جَامِعِهِ [  أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ: أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: أَرَى الرَّجُلَ السُّوءَ مَعَ الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: صِحْ بِهِ] .


 وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا تَطَيَّبَتْ وَخَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ ]

وَ  يَمْنَعُ الْمَرْأَةَ إذَا أَصَابَتْ بَخُورًا أَنْ تَشْهَدَ عِشَاءَ الْآخِرَةِ فِي الْمَسْجِدِ .
 فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [ الْمَرْأَةُ إذَا خَرَجَتْ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ ].

وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَمْكِينَ النِّسَاءِ مِنْ اخْتِلَاطِهِنَّ بِالرِّجَالِ: أَصْلُ كُلِّ بَلِيَّةٍ وَشَرٍّ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ نُزُولِ الْعُقُوبَاتِ الْعَامَّةِ، كَمَا أَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ فَسَادِ أُمُورِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَاخْتِلَاطُ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ سَبَبٌ لِكَثْرَةِ الْفَوَاحِشِ وَالزِّنَا، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ الْعَامِّ، وَالطَّوَاعِينِ الْمُتَّصِلَةِ.

 وَلَمَّا اخْتَلَطَ الْبَغَايَا بِعَسْكَرِ مُوسَى، وَفَشَتْ فِيهِمْ الْفَاحِشَةُ: أَرْسَلَ اللَّهُ إلَيْهِمْ الطَّاعُونَ، فَمَاتَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ التَّفَاسِيرِ.

فَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ الْعَامِّ: كَثْرَةُ الزِّنَا، بِسَبَبِ تَمْكِينِ النِّسَاءِ مِنْ اخْتِلَاطِهِنَّ بِالرِّجَالِ، وَالْمَشْيِ بَيْنَهُمْ مُتَبَرِّجَاتٍ مُتَجَمِّلَاتٍ، وَلَوْ عَلِمَ أَوْلِيَاءُ الْأَمْرِ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ الدُّنْيَا وَالرَّعِيَّةِ - قَبْلَ الدِّينِ - لَكَانُوا أَشَدَّ شَيْءٍ مَنْعًا لِذَلِكَ.

وَعَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ اللَّاعِبِينَ بِالْحَمَامِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ يَتَوَسَّلُونَ بِذَلِكَ إلَى الْإِشْرَافِ عَلَيْهِمْ، وَالتَّطَلُّعِ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ  مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ [ رَأَى رَجُلًا يَتْبَعُ حَمَامَةً فَقَالَ: شَيْطَانٌ يَتْبَعُ شَيْطَانَةً ]
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: [ مَنْ لَعِبَ بِالْحَمَائِمِ الطَّيَّارَةِ: لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَذُوقَ أَلَمَ الْفَقْرِ ].
وَقَالَ الْحَسَنُ: [  شَهِدْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ يَخْطُبُ، يَأْمُرُ بِذَبْحِ الْحَمَامِ، وَقَتْلِ الْكِلَابِ ] ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ: قَالَ: [  كَانَ تَلَاعُبُ آلِ فِرْعَوْنَ بِالْحَمَامِ ].
 وَكَانَ شُرَيْحٌ لَا يُجِيزُ شَهَادَةَ صَاحِبِ حَمَّامٍ وَلَا حَمَامٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سُفْيَانَ: [  سَمِعْنَا أَنَّ اللَّعِبَ بالجلاهق وَاللَّعِبَ بِالْحَمَامِ مِنْ عَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ ] .
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: [ شَهِدْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَأْمُرُ بِالْحَمَائِمِ الطَّيَّارَةِ فَيُذْبَحْنَ، وَيَتْرُكُ الْمُقَصَّصَاتِ ].
هذا ما انتقيته من كلامه رحمه الله وفي الكتاب أمور أخرى وتبيهات واستطرادات  تراجع في الكتاب المذكور , والله الموفق