فوائد جليلة ودرر ثمينة من كتاب ( التمييز ) للإمام مسلم رحمه الله تعالى


فوائد جليلة ودرر ثمينة من كتاب ( التمييز ) للإمام مسلم رحمه الله تعالى

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
 أما بعد : 


فبرغم من صغر هذا الكتاب الجليل أعني كتاب التمييز للإمام مسلم رحمه الله فإنك تجد فيه فوائد جليلة ودرراً تضرب لها أكباد الإبل ويرحل إليها .
وكعادة هذه الطبقة ومن قلبها في التصنيف فإنك تجد الكتاب صغير الحجم عظيم النفع والفائدة من غير تطويل ولا تشتيت للقاريء
ولما أنهيت قراءة الكتاب الجليل قرأت بعض الفوائد على شيخي أبي جعفر عبد الله الخليفي وفقه الله فقال لي:
 لو جمعت هذه الفوائد في مقال مستقل لكان حسناً
فأجبته لما أراد وفقني الله واياه للرشد والسداد
وسأجعل المقال بصيغة فوائد أبوب عليها من عندي وأضيف فوائد بعده إن بدا لي ذلك
فأقول : 


باب : الجهال أعداء العلم في كل زمان ومكان وهم أعداء ما يجهلون

قال الإمام مسلم :
و اعلم وفقنا الله و إياك أن لولا كثرة جهلة العوام مستنكري الحق و رواية بالجهالة لما بان فضل عالم على جاهل ، و لا تبين علم من جهل.
 و لكن الجاهل ينكر العلم لتركيب الجهل فيه. و ضد العلم هو الجهل. فكل ضد ناف لضده، دافع له لا محالة.
 فلا يهولنك استنكار الجهال و كثرة الرعاع لما خص به قوم و حرموه فإن اعتداد العلم دائر إلى معدنه، و الجهل واقف على أهله.
وسألت أن أذكر لك في كتابي رواية أحاديث مما وهم قوم في روايتها. فصارت تلك الأحاديث عند أهل العلم في عداد الغلط و الخطأ، بيان شاف أبينها لك حتى يتضح لك و لغيرك - ممن سبيله طلب الصواب، سبيلك - غلط من غلط و صواب من أصاب منهم فيها، و سأذكر لك إن شاء الله من ذلك ما يرشدك الله و تهجم على أكثر مما أذكره لك في كتابي، و بالله التوفيق. انتهى 

وفيه فوائد:
( 1) أن صاحب الحق يصبر عليه ويدعو إليه ولا يهولنه كثرة الجهال المخالفين 

( 2) أن غالب دوافع هؤلاء الجهال لكلامهم في طلبة العلم وحامليه الحسد ( بقوله : لما خص به قوم وحرموه )


باب : الحكم على الأحاديث وتعليلها من خصائص أئمة الحديث وهم المرجع فيه لا غيرهم

قال الإمام مسلم :
واعلم رحمك الله , أن صناعة الحديث ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم , إنما هي لأهل الحديث خاصة , لأنهم الحفاظ لروايات الناس , العارفين بها دون غيرهم .
إذ الأصل الذي يعتمدون لأديناهم : السنن والآثار المنقولة من عصر إلى عصر من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا .
فلا سبيل لمن نابذهم من الناس , وخالفهم في المذهب إلى معرفة الحديث ومعرفة الرجال من علماء الأمصار فيما مضى من الأعصار من نقال الآثار وحمال الأخبار .
وأهل الحديث هم الذي يعرفونهم ويميزونهم حتى ينزلوهم منازلهم في التعديل والتجريح .
وإنما اقتصصنا هذا الكلام لكي نثبته من جهل مذهب أهل الحديث ممن يريد التعلم والتنبه , على تثبيت الرجال وتضعيفهم .
فيعرف ما الشواهد عندهم والدلائل التي بها ثبتوا الناقل للخبر من نقله , أو أسقطوا من أسقطوا منهم .
والكلام في تفسير ذلك يكثر , وقد شرحناه في مواضع غير هذا , وبالله التوفيق في كل ما نؤم ونقصد . انتهى

قلت : في هذه الأسطر فوائد جليلة وعبر , ونداء لكل طالب للحق منصف من نفسه , ممن يتعقب هؤلاء الحفاظ الجبال الذين حمى الله بهم الدين من التحريف والتبديل أن يعطي القوس باريها وينشغل بفهم تصرفاتهم ويتبع ما سطروا وما كتبوا فو الله ما خرج الحق عنهم جميعاً ووصلنا ولا حرموا خيراً فأعطيناه لفضلنا عليهم بل أعطوا خيرات كثيرة حرمناها بفضلهم علينا  , فيا لخسارة من نابذهم حقهم وفنهم , ويا لندامة من عدل عن طريقهم إلى طريق غيرهم , وإلى الله المشتكى . 


باب : أنواع الرواة والغلط يقع من الحافظ ومن غيره

قال الإمام مسلم :
 فمنهم الحافظ المتقن الحفظ، المتوقي لما يلزم توقيه فيه، و منهم المتساهل المشيب حفظه بتوهم يتوهمه ، أو تلقين يلقنه من غيره فيخلطه بحفظه، ثم لا يميزه عن أدائه إلى غيره. و منهم من همه حفظ متون الأحاديث دون أسانيدها، فيتهاون بحفظ الأثر ، يتخرصها من بعد فيحيلها بالتوهم على قوم غير الذين أدي إليه عنهم.
و كل ما قلنا من هذا في رواة الحديث و نقال الأخبار، فهو موجود مستفيض.
و مما ذكرت لك من منازلهم في الحفظ، و مراتبهم فيه، فليس من ناقل خبر و حامل أثر من السلف الماضين إلى زماننا - و إن كان من أحفظ الناس، و أشدهم توقياً و اتقاناً لما يحفظ و ينقل - إلا الغلط و السهو ممكن في حفظه و نقله، فكيف بمن وصفت لك ممن طريقة الغفلة و السهولة في ذلك. انتهى

قال الإمام مسلم :
و قد ذكرنا من مذاهب أهل العلم و أقاويلهم في درجات الحفاظ من وعاة العلم و نُقال الأخبار و السنن و الآثار، ما يستدل به ذو اللب على تفاوت أحوالهم و منازلهم في الحفظ و بأسبابه. فيعلم أن منهم المتوقي المتقن لما حصل من علم و ما أدى منه إلى غيره. و إن منهم من هو دونه في رداءة الحفظ و التساهل فيه. و إن منهم المتوهم فيه غير المتقن. فهذا كما يجب حاملاً حين يحمل أو حاكياً حين يحكي.
و قد اشترط النبي صلى الله عليه و سلم على سامع حديثه و مبلغه حين دعا له أن يعيه، و يحفظ ثم يؤديه كما سمعه. فالمؤدي لذلك بالتوهم غير المتيقن مؤد على خلاف ما شرط النبي صلى الله عليه و سلم و غير داخل في جزيل ما يرجى من إجابة دعوته عليه و الله أعلم.
فإن كان المؤدي جاء بخبر عن الرسول صلى الله عليه و سلم بالتوهم، قد أزال معنى الخبر بتوهمه عن الجهة التي قاله، بنقصان فيه أو زيادة، حتى يصير قائلاً على رسول الله صلى الله عليه و سلم كمن لا يعلم، لم يؤمن عليه الدخول فيما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله: من كذب عليّ متعمداً فيتبوأ مقعده من النار. فإذا علم ذلك، ثم لم يتحاش من فعله، فقد دخل في باب تعمد الكذب، فإن كان لم يعلم تحريم ذلك فهو جاهل لما يجب عليه. و الواجب عليه تعلم تحريمه و الانزجار عن فعله. انتهى


باب : بيان خطأ المخطيء ليس من الغيبة في شيء وإن كان فاضلاً

قال الإمام مسلم :
حدثنا عمرو بن علي، ثنا عفان، قال: [  كنا عند إسماعيل بن علية جلوساً.
قال فحدث رجل عن رجل ، فقلت : إن هذا ليس بثبت.
 فقال الرجل: اغتبته.
قال إسماعيل : ما اغتابه و لكنه حكم أنه ليس بثبت ] .
* حدثنا حجاج بن الشاعر، قال، ثنا شبابة، قال شعبة:  [ قد لقيت شهراً فلم أعتد به ] .
* حدثنا حجاج، ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، قال، قال أيوب : [  إن لي جاراً - ثم ذكر من فضله - و لو شهد على تمرتين ما رأيت شهادته جائزة ] .

*  حدثني محمد بن المثنى، قال، قال لي عبدالرحمن بن مهدي:  [ يا أبا موسى أهل الكوفة يحدثون عن كل أحد. قال: عمن أحدث؟ فذكرت له محمد بن راشد المكحولي.
فقال لي: احفظ عني، الناس ثلاثة. رجل حافظ متقن فهذا لا يختلف فيه، و آخر يهم و الغالب على حديثه الصحة فهو لا يُترك. و لو تُرك حديث مثل هذا لذهب حديث الناس. و آخر الغالب على حديثه الوهم فهذا يُترك حديثه ] . انتهى

ثم ذكر الإمام مسلم رحمه الله بعض ما أخطأ فيه شعبة ومالك وابن عيينة وغيرهم من الأئمة رحمهم الله جميعاً , فهذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , لا يتهاون فيه من أجل فلان أو فلان وإن كان فاضلاً فرسول الله خير منه ولا ينسب الكلام كذباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل فلان أو فلان كائناً من كان .

باب : طرق الإعلال عند الإمام مسلم رحمه الله تعالى

* أعل الإمام مسلم رواية الزهري لخبر ذي اليدين أنه لم يسجد سجدتي السهو ووهم الزهري رحمه الله فيها
فقد رواها سفيان عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة
وعبيد الله عن نافع عن ابن عمر
وخالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران
كلهم ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجدتي السهو .

* وأعل الإمام مسلم أن ابن عباس وقف على يمين النبي صلى الله عليه وسلم فجعله عن يساره ( مقلوبا )
في حديث مبيته عن خالته ميمونة
فقال الإمام مسلم : وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سائر الأخبار عن ابن عباس أن الواحد مع الإمام يقوم عن يمين الإمام لا عن يساره  , ثم ذكر الأخبار بالأسانيد الصحيحة في أنه وقف في اليسار فجعله النبي صلى الله عليه وسلم على يمينه .

* ثم أعل الإمام مسلم خبر أبي معاوية الضرير  عن هشام عن أبيه عن زينب عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافي معه صلاة الصبح يوم النحر بمكة .
بنكارة المتن وبمخالفة جمع من الثقات لأبي معاوية
فقال :  وهذا الخبر وهم من أبي معاوية لا من غيره , وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح في حجته يوم النحر بمزدلفة , وتلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يأمر أم سلمة أن توافي معه صلاة الصبح يوم النحر بمكة وهو حينئذ يصلي بمزدلفة ؟ . انتهى
ثم ساق بالأسانيد أن الرواية الصحيحة مرسلة هشام عن أبيه مرسلاً , ولم يقل توافي معه لا بل أمرها بالصلاة فقط
وأفاد محقق نسختي من التمييز أن الإمام أحمد أعله بنفس العلة .


الإعلال بالتصحيف وقديماً كان أخذ الكتب بلا سماع آفة تخشى على المحدث

أسند الإمام مسلم عن ابن لهيعة حديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم في المسجد
ثم قال: وهذه رواية فاسدة من كل جهة , فاحش خطؤها في المتن والإسناد جميعاً .
 وابن لهيعة : المصحف في متنه , المغفل في إسناده . انتهى

ثم ذكر الروايات الصحيحة أن النبي [ احتجر ] في المسجد : أي اتخذ حجرة فيه
ثم قال : وابن لهيعة إنما وقع في الخطأ من هذه الرواية أنه أخذ الحديث من كتاب موسى بن عقبة إليه فيما ذكر .
وهي الآفة التي تخشى على من أخذ الحديث من الكتب من غير سماع من المحدث أو عرض عليه .
فإذا كان أحد هذين السماع أو العرض فخليق أن لا يأتي صاحبه التصحيف القبيح وما أشبه ذلك من الخطأ الفاحش إن شاء الله تعالى .
ثم أعل الإسناد أيضاً فقال : وأما الخطأ في إسناد رواية ابن لهيعة فقوله : كتب إلي موسى بن عقبة يقول حدثني بسر بن سعيد .
وموسى إنما سمع هذا الحديث من أبي النضر يرويه عن بسر بن سعيد . انتهى


قاعدة جليلة في الزيادات ( في كلامه على الزيادات في المتن )

قال الإمام مسلم : والزيادات في الأخبار لا تُلزم إلا عن الحفاظ الذين لم يكثر عليهم الوهم في حفظهم . انتهى

أقول : مثل ابن سيرين والحسن , ونافع , والزهري , والأعمش  وهذا الضرب من الحفاظ . 

إعلال بالتصحيف  ( لا يدركه أحد إلا بالرجوع لكلام الأئمة )

ذكر الإمام مسلم حديث قبيصة عن سفيان عن زيد بن أسلم عن عياض عن أبي سعيد : كنا نورثه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , يعني الجد .
ثم قال : هذا خبر صحف فيه قبيصة , وإنما كان الحديث بهذا الإسناد عن عياض قال كنا [ نؤديه ] على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني الطعام وغيره في زكاة الفطر , فلم يقر قراءته فقلب قوله , إلى أن قال : يورثه ثم قلب له معنى فقال : يعني الجد . انتهى 

قلت : أفاد محقق نسختي أن غيره من الحفاظ أعلوا الحديث , منهم الإمام أبو زرعة الرازي رحمه الله 


لا يجوز إخراج الحديث وذكره بعد ثبوت نكارته مرفوعاً إلا لبيان علته 

قال الإمام مسلم بعد أن أخرج حديث سلمة بن وردان ( وهو ضعيف جداً ) عن أنس - : يا فلان هل تزوجت .. وذكر الحديث , وبين علته وخطأه
ثم قال رحمه الله : ولو أن هذا الكتاب قصدنا فيه الإخبار عن سنن الأخبار بما يصح وبما يستقيم لما استجزنا ذكر هذا الخبر عن سلمة بلفظ اللسان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلاً عن روايته , وكذلك ما أخرجه من الاخبار المنكرة  , ولكننا سوغنا روايته لعزمنا على إخبارنا ما فيه من العلة التي وصفنا . انتهى

قلت : فيه أن الخبر إذا تأكد ضعفه عند الباحث لا يجوز ذكره منسوباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا ببيان علته وإن صححه بعض العلماء والمعاصرين فتنبه .

وهنا تنبيه : أن قاعدة : من أسند لك فقد أحالك ليست على إطلاقها , فتجد أصحاب السنن يروون الحديث فإذا عرفوا له علة ذكروها .
وهذا يتأكد في الأحاديث التي ظاهرها الصحة وهو عمل الأئمة أبو داود والترمذي والنسائي  فتجدهم إذا عرفوا للحديث علة خفية وظاهر إسناده الصحة بينوا ذلك نصحاً للمسلمين , ولأن عدم ذكر العلة مع ظاهر صحة الإسناد يغرر بالمسلمين وهم من أكثر الناس نصحاً رحمهم الله تعالى 

وهنا تنبيه آخر : سلمة بن وردان قال ابن حجر في تقريبه  : ضعيف .
 والصواب أنه ضعيف جداً وأحاديثه عن أنس بالذات منكرة جداً نص على ذلك أبو حاتم في ترجمته في الجرح والتعديل , وهذا كثير جداً في كتاب ابن حجر فلينتبه له .


أهل البدع يروون ما يوافق أهوائهم فلنتبه السني لهذا 

قال الإمام مسلم [ بعد أن ساق حديث جبريل المشهور ] : فأما رواية أبي سنان عن علقمة في متن هذا الحديث إذ قال فيه جبريل عليه السلام : جئت أسألك عن شرائع الإسلام
فهذه زيادة مختلقة , ليست من المحروف بسبيل .
 وإنما أدخل هذا الحرف في رواية هذا الحديث شرذمة زيّادةٌ في الحرف  مثل حزب النعمان بن ثابت وسعيد بن سنان ومن نحا نحوهما في الإرجاء .
 وإنما أرادوا بذلك تصويبا في قوله بالإيمان ( يعني أبا حنيفة ) وتعقيد الإرجاء ( يعني جعل الإرجاء عقيدة ) ذلك ما لم يزد قولهم إلا وهنا , وعن الحق إلا بعداً , إذ زادوا في رواية الأخبار ما كفى بأهل العلم . انتهى

ثم ذكر الأدلة على بطلان هذه الرواية .
وفيه أن أبا حنيفة كان رأساً في الإرجاء وأن المرجئة كانوا ينسبون إليه فيقال هؤلاء حزب أبي حنيفة . 


لا يكون الحديث صحيحاً ثم لا يقول به أحد من أئمة الإسلام 

ساق الإمام مسلم بإسناده حديث عرفة وقول النبي صلى الله عليه وسلم : إن وقفت عليها قبل الفجر فقد أدركت , فقال الرجل : يا نبي الله أرأيت أن أدركتني الفجر ؟
فقال : إن وقفت عليها قبل أن تطلع الشمس فقد ادركت .
ثم ساق الروايات الصحيحة , وقال : فقد تواطئت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار أن إدراك الحج هو أن يطأ المرء عرفات مع الناس أو بعد ذلك إلى قرب الصبح من ليلة النحر فإن أدركه الصبح ولما يدخل عرفات قبل ذلك فقد فاته الحج , لا اختلاف بين أهل العلم في ذلك .
دل بما ذكرنا من تواطؤ الأخبار واتفاق العلماء على ما وصفنا أن رواية ابن اسحاق التي رواها فجعل إدراك الحج فيها إلى بعد الصبح من قبل طلوع الشمس رواية ساقطة , وحديثاً مطرحاً .
إذ لو كان محفوظاً وقولا مقولاً بمثل سائر الموجبات , لم يذهب عن جميعهم . انتهى

قلت : وفيه أن الباحث إذ وجد حديثاً مثلا ظاهره الوجوب ووجد إجماع العلماء على الاستحباب مثلاً لا يقول أنا معي ظاهر الحديث , إذ باقي أئمة الإسلام ليس بينهم وبين السنة عداء وما أجمعوا إلا على حق , بإذن الله تعالى .


إذا كان الراوي مشهوراً بالمناكير والأخطاء ,  عصب خطأ الرواية فيه 

ساق الإمام مسلم حديث وكيع عن سفيان عن أبي قيس عن هزيل بن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة : [ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين  ] .
ثم ذكراً جمعاً من أجلة التابعين خالفوا هذه الرواية وهم أولى بالصواب منه كما بينه الإمام مسلم .
ثم قال : والحمل فيه على أبي قيس أشبه , وبه أولى منه بهزيل , لأن أبا قيس قد استنكر أهل العلم من روايته أخباراً غير هذا الخبر , سنذكرها في مواضعها إن شاء الله . 


الرواي يضعف بسبب الروايات المنكرة لا العكس 

ذكر الإمام مسلم حديث : من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأتها وليكفر عن يمينه , وذكر الحديث من طرق عدة
ثم ذكر رواية يحيى بن عبيد الله القرشي عن أبيه عن أبي هريرة فقال فيها : فأتى الذي هو خير فهو كفارتها .
ثم بين بطلان هذه الرواية بمخالفة الثقات الحفاظ , ونقل اجماع أهل العلم أن الكفارة بعد الحنث واجبة
ثم قال : بمثل هذه الروايات وأشباهها ترك أهل الحديث حديث يحيى بن عبيد الله , لا يعتدون به وأما حديث ابن خياط عن عمرو بن شعيب فلا معنى للتشاغل به . انتهى

أقول : فيه أن الراوي أصبح صدوقاً او ضعيفاً او متروكاً بسبب مروياته , بمعنى أنه نزل من مرتبة الثقات إلى الصدوق بسبب بعض الأخطاء التي وقع فيها .
فإن جاء شخص وصحح أحاديث الصدوق كلها فهو لم يفهم مراد الأئمة ولا تصرفاتهم  , وأخذ بالنتيجة وترك المقدمة .
  وهذا تجده كثيراً في كلام المتأخرين : صدوق حديثه حسن أو لا ينزل عن رتبة الحسن , إذ لو كانت أحاديث الصدوق كلها محفوظة لكان ثقتاً ثبتاً بلا مثنوية .
فمن أخذ بالنتيجة وهي الحكم على الرواي , يلزمه الأخذ بالمقدمة التي بسببها حكم عليه وهي السبر لمروياته وهذا لا سبيل إليه اليوم إلا بالرجوع لكلام الأئمة الحفاظ أهل السبر والذين يعرفون الرواة وأحوالهم أكثر من أحوال أولادهم وإخوانهم .


الإعلال بمخالفة الراوي ما روى 

ذكر الإمام مسلم حديث أبي هريرة : أن رجلاً قال : يا رسول الله ما الطهور بالخفين ؟
قال : للمقيم يوم وليلة , وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن .
ثم قال : هذه الرواية في المسح عن أبي هريرة ليست بمحفوظة , وذلك أن أبا هريرة لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم , ولثبوت الرواية عنه بإنكاره المسح على الخفين .
حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا محمد قال حدثنا شعبة عن يزيد بن زاذي قال سمعت أبا زرعة قال : سألت أبا هريرة عن المسح على الخفين , قال فدخل أبو هريرة دار مروان بن الحكم فبال ثم دعا بما فتوضأ وخلع خفيه , وقال : ما أمرنا الله أن نمسح على جلود البقر والغنم .
فقد صح برواية أبي زرعة وأبي رزين عن أبي هريرة إنكاره المسح على الخفين .
ولو كان قد حفظ المسح عن النبي صلى الله عليه وسلم كان أجدر الناس وأولاهم للزومه والتدين به ..وذكر كلاماً
ثم قال : وأن من أسند ذلك ( يعني المسح )  عنه ( يعني أبو هريرة ) عن النبي صلى الله عليه وسلم : واهي الرواية , أخطأ فيه إما سهوا وإما عمداً . انتهى
 
وهنا فوائد :
1-  أفاد محقق نسختي أنه لم يقف على خبر إنكار أبي هريرة المسح إلا في كتاب التمييز وهذه فائدة جليلة جداً .

2- في موضوع إنكار أبي هريرة رضي الله عنه للمسح :
 قال ابن حجر في التلخيص الحبير [ 1/ 279 ] : قَالَ أَحْمَدُ - يعني الإمام أحمد بن حنبل - : لَا يَصِحُّ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي إنْكَارِ الْمَسْحِ ، وَهُوَ بَاطِلٌ . انتهى

أقول : وتبع ابن حجر  على ذكر تلك الرواية جماعة ممن صنف بعده .

 وهذا خلاف ما نقله الدارقطني عن أحمد ويبدو أنه وهم من ابن حجر سئل الدارقطني في العلل : [ 1563] أَحادِيث رُوِيَت ، عَن أَبِي هُرَيرة ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيه وسَلم فِي المَسحِ عَلَى الخُفَّينِ ، مِنها :

 1- حَدِيثٌ يَروِيهِ جَرِيرُ بن أَيُّوب البَجَلِيُّ ، عَن أَبِي زُرعَة ، عَن أَبِي هُرَيرة ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيه وسَلم : إِذا أَدخَل أَحَدُكُم قَدَمَيهِ طاهِرَتَينِ فَليَمسَح لِلمُقِيمِ يَومًا ، ولِلمُسافِرِ ثَلاَثًا.
 فَقال : هَذا باطِلٌ عَن أَبِي هُرَيرة  .
وقَد قال أَبُو نُعَيمٍ : كان جَرِيرٌ يَضَعُ ... الحَدِيثَ .

2-  وحَدِيثٌ يُروَى عَن يَحيَى بنِ أَبِي كَثِيرٍ ، عَن أَبِي سَلَمَة ، عَن أَبِي هُرَيرة فِي نَحوِ ذَلِكَ.
رَواهُ أَيُّوبُ بن عُتبَة ، وعُمَرُ بن أَبِي خَثعَمٍ وهُما ضَعِيفانِ رَوَياهُ ، عَن يَحيَى .
 وتابَعَهُما مَعلَى بن عَبدِ الرَّحمَنِ الواسِطِيُّ وكان كَذّابًا فَرَواهُ عَن عَبدِ الحَمِيدِ بنِ جَعفَرٍ ، عَن يَحيَى نَحو ذَلِك ، وزاد فِيهِ والخِمارُ ، ولَم يَذكُرِ التَّوقِيتَ .

 3-  وحَدِيثٌ آخَرُ يَروِيهِ سَعِيد بن أَبِي راشِدٍ وكان ضَعِيفًا ، عَن عَطاءٍ ، عَن أَبِي هُرَيرة ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيه وسَلم فِي التَّوقِيتِ عَنِ المَسحِ ، حَدَّث بِهِ مَروانُ الفَزارِيُّ ، عَنهُ.

 4- وحَدِيثٌ آخَرُ يَروِيهِ إِبراهِيمُ بن أَبِي يَحيَى ، ومُسلِمُ بن خالِدٍ الزَّنجِيُّ ، عَنِ ابنِ أَبِي ذِئبٍ ، عَن صالِحٍ مَولَى التَّوأَمَة ، ولا يَصِحُّ عن ابن أَبِي ذِئبٍ.

 5- وحَدِيثٌ آخَرُ يَروِيهِ أَبانُ بن عَبدِ الله البَجَلِيُّ وكان ضَعِيفًا ، عَن مَولَى لأَبِي هُرَيرة فِي المَسحِ عَلَى الخُفَّينِ مَرفُوعًا. وَأَبانُ ضَعِيفٌ. 

وقال أَحمَد بن حَنبَلٍ : هَذا حَدِيثٌ مُنكَرٌ ، وكُلُّها باطِلَةٌ ، ولا يَصِحُّ عَن أَبِي هُرَيرة ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيه وسَلم فِي المَسحِ. انتهى كلام الحافظ الدارقطني
 
وهذا فيه أن الإمام أحمد أنكر ورود المسح عن أبي هريرة لا إنكار المسح .

وقال ابن رجب في شرح العلل : أحاديث أبي هريرة عن النبي في المسح على الخفين ضعفها أحمد ومسلم وغير واحد
وقال أحمد : أبو هريرة ينكر المسح على الخفين فلا يصح له فيه رواية .انتهى

 ولعله يؤيد هذا أن أسانيد الإنكار أقوى من أسانيد المسح .

وقال الشافعي في الأم : ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين، فأنكر المسح علي بن أبي طالب وعائشة وابن عباس وأبو هريرة .انتهى

وقال ابن عبد البر في التمهيد : ذكر الأثرم قال سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل : ... وذكر كلاماً كثيراً ... إلى أن قال : روي عن أبي هريرة أنه لا يمسح وعن ابن عباس وعائشة وأبي أيوب .انتهى

فالذي يبدو أن هذا وهم من ابن حجر ولا يثبت عن أحمد والله تعالى أعلم
وأن ما ذهب إليه الإمام مسلم صواب إن شاء الله
* تنبيه استفدت أحد النقولات من بحث لأحد المعاصرين .


قاعدة جليلة : لا تعرف صحة الأخبار من سقمها إلا بجمع الروايات في الباب

قال الإمام مسلم :
فبجمع هذه الروايات ومقابلة بعضها ببعض , يتميز صحيحها من سقيمها , ويتبين رواة ضعاف الأخبار من أضدادهم من الحفاظ .
ولذلك  أضعف أهل المعرفة بالحديث : عمر بن عبد الله بن أبي خثعم وأشباههم من نقلة الأخبار , لروايتهم الأحاديث المستنكرة , التي تخالف روايات الثقات المعروفين من الحفاظ .انتهى
 
قلت التميمي : وهذا يصلح فيما قدمنا من تضعيف الراوي بسبب مروياته . 


لا يمتنع أن يكون الراوي ثقة في شيخ وضعيف في آخر

قال الإمام مسلم :
وقد يكون من ثقات المحدثين من يضعف روايته عن بعض رجاله الذين حمل عنهم للتثبيت , ... إلى أن قال :
والدليل على ما بينا : اجتماع أهل الحديث ومن علمائهم على أن أثبت الناس في ثابت البناني : حماد بن سلمة , كذلك قال يحيى القطان , ويحيى بن معين , وأحمد ابن حنبل , وغيرهم من أهل المعرفة .
وحماد يعد عندهم إذا حدث عن غير ثابت , كحديثه عن قتادة وأيوب ويونس وداود بن أبي هند والجريري ويحيى بن سعيد وعمرو بن دينار , وأشباههم , فإنه يخطئ في حديثهم كثيراً .
وغير حماد في هؤلاء أثبت عندهم : كحماد بن زيد وعبد الوارث ويزيد بن زريع وابن علية .
وعلى هذا المقال الذ وصفنا عن حماد في حسن حديثه وضبطه عن ثابت , حتى صار أثبتهم فيه :
 جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران ويزيد الأصم , فهو أغلب الناس عليه , والعلم بهما وحديثهما , ولو ذهبت تزن جعفراً في غير ميمون وابن الأصم وتعتبر حديثه عن غيرهما , كالزهري وعمرو بن دينار وسائر الرجال , لوجدته ضعيف الركن رديء الضبط والرواية عنهم . انتهى
 
الخاتمة

وهنا في الختام أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرحم هؤلاء الحفاظ الجبال وأن يجمعنا بهم في الفردوس الأعلى بمنه وكرمه ورحمته .
وأدعو إخواني طلبة العلم في كل مكان إلى اقتناء هذه الكتب والاستفادة منها .
وأن تكون هي القاعدة وهي الأساس التي يحاكم إليه عمل من جاء بعدهم لا العكس .     
وليعلم أخي القاري أني لم أذكر أرقام الصفحات ولم أذكر كل الفوائد الموجودة في الكتاب لكي أشحذ همم طلبة العلم من اقتناء الكتاب والحرص عليه فهو كتاب جليل صغير الحجم يقع في 246 ورقة – ط دار التوحيد ودار الأوقاف – مصرية -  وفيها فوائد جليلة ودرر عزيزة 

هذا وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

وكتب : عبد الله بن سليمان التميمي
غفر الله له



جميع الحقوق محفوظة لمدونة عبد الله بن سليمان التميمي ©2013-2014 | |