انتصار شيخ الإسلام ابن تيمية لأهل الأثر ....



الانتصار لأهل الأثر ...

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

فهذه فوائد من كتاب [  الانتصار لأهل الأثر  ] لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني رحمه الله تعالى  وما بين (     )  للتوضيح  :

* قال تعالى { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } وقد شهد الله  لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم  ومن تبعهم بإحسان بالإيمان , فعُلم قطعاً أنهم المراد بالآية الكريمة .
فقال تعالى { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
وقال : {  لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ }
فحيث تقرر أن من اتبع غير سبيلهم , ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم , فمن سبيلهم في الاعتقاد : الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه .... إلى آخره

* وكل هذه الطرق , فلأهل الحديث صفوتها وخلاصتها , فهم أكمل الناس عقلاً , وأعدلهم قياساً , وأصوبهم رأياً , وأسدهم كلاماً , وأصحهم نظراً , وأهداهم استدلالاً , وأقومهم جدلاً , وأتمهم فراسة , وأصدقهم إلهاماً , وأحدهم بصراً ومكاشفة , وأصوبهم سمعاً ومخاطبة , وأحسنهم وجداً وذوقاً .... وكذلك أهل السنة والحديث تجدهم بذلك متصفين , وذلك لأن اعتقاد الحق الثابت يقوي الإدراك ويصححه .

* وتجد الإسلام والإيمان كلما ظهر وقوي كانت السنة وأهلها أظهر وأقوى , وإن ظهر شيء من الكفر والنفاق ظهرت البدع بحسب ذلك .

* كانت البدع في القرون الثلاثة الفاضلة مقموعة , وكانت الشريعة أعز وأظهر , وكان القيام بجهاد أعداء الدين من الكافرين والمنافقين أعظم .

* وقد كان في أيام المتوكل قد عزّ الإسلام , حتى ألزم أهل الذمة بالشروط العمرية , وأُلزموا الصغار , فعزت السنة والجماعة , وقُمعت الجهمية والرافضة ونحوهم .

* أئمة السنة والحديث لا يرجع منهم أحد , لأن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد .

* وأهل الحديث لا يستدلون بحديث ضعيف في نقض أصل عظيم من أصول الشريعة , بل إما في تأييده وإما في فرع من الفروع , وأولئك يحتجون بالحدود والمقاييس الفاسدة في نقض الأصول الحقة الثابتة .

* وإذا كانت سعادة الدنيا والآخرة في اتباع المرسلين , فمن المعلوم أن أحق الناس بذلك أعلمهم بآثار المرسلين  وأتبعهم لذلك , فالعالمون بأقوالهم وأفعالهم المتبعون لهم , هم أهل السعادة في كل زمان ومكان , وهم الطائفة الناجية من أهل كل ملة , وهم أهل السنة والحديث من هذه الأمة .


* أهل السنة والحديث الذين هم أعظم الناس علماً ويقيناً وطمأنينة وسكينة , يعلمون ويعلمون أنهم يعلمون وهم بالحق يوقنون , لا يشكون ولا يمترون .

* فأما ما أوتيه علماء أهل الحديث وخواصهم من اليقين والمعرفة والهدى فأمرٌ يجل عن الوصف , وعند عوامهم من اليقين والمعرفة والعلم النافع ما لم يحصل منه شيء لأئمة المتفلسفة المتكلمين وهذا ظاهر مشهود لكل أحد .

* والمقصود أن ما عند عوام المؤمنين وعلمائهم من أهل السنة والجماعة من : المعرفة واليقين والطمأنينة والجزم الحق , والقول الثابت , والقطع بما هم عليه أمرٌ لا ينازع فيه إلا من سلبه الله العقل والدين .

* وأما أهل السنة والحديث فما يعلم أحد من علمائهم , ولا من صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده , بل هم أعظم الناس صبراً على ذلك , وإن امتحنوا بأنواع المحن وفتنوا بأنواع الفتن .

* الثبات والاستقرار في أهل الحديث والسنة أضعاف أضعاف أضعاف ما هو عند أهل الكلام والفلسفة .


* وقال تعالى { وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون , وأهل الرحمة هم أتباع الأنبياء قولاً وفعلاً , وهم أهل القرآن والحديث من هذه الأمة , فمن خالفهم في شيء فقد فاته من الرحمة بقدر ذلك .

* وأبو محمد بن قتيبة في أول كتاب [ مختلف الحديث ] لما ذكر أهل الحديث وأئمتهم وأهل الكلام وأئمتهم , قفى بذكر أئمة هؤلاء ووصف أقوالهم وأعمالهم ووصف أئمة هؤلاء وأقوالهم وأفعالهم , بما يبين لكل أحد أن أهل الحديث هم أهل الحق والهدى , وأن غيرهم أولى بالضلال والجهل والحشو والباطل

* وأيضاً فالمخالفون لأهل الحديث هم مظنة فساد الأعمال , إما عن سوء عقيدة ونفاق , وإما عن مرض في القلب وضعف إيمان , ففيهم من ترك الواجبات واعتداء الحدود والاستخفاف بالحقوق وقسوة القلب ما هو ظاهرٌ لكل أحد , وعامة شيوخهم يرمون بالعظائم , وإن كان فيهم من هو معروف بزهد وعبادة , ففي زهد بعض العامة من أهل السنة وعبادة ما هو أرجح مما هو فيه .

* فمن المعلوم أن العقل والدين يقتضيان أن جانب النبوة والرسالة أحق بكل تحقيق وعلم ومعرفة وإحاطة بأسرار الأمور وبواطنها , هذا لا ينازع فيه مؤمن , ونحن الآن في مخاطبة من فيه إيمان
وإذا كان الأمر كذلك , فأعلم الناس بذلك أخصهم بالرسول وأعلمهم بأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته ومدخله ومخرجه وباطنه وظاهره , وأعلمهم بأصحابه وسيرته وأيامه وأعظمهم بحثاً عن ذلك وعن نقلته , وأعظمهم تديناً به واتباعاً له واقتفاء به
وهؤلاء هم أهل السنة والحديث , حفظاً له  ومعرفة بصحيحه وسقيمه وفقهاً فيه , وفهماً يؤتيه الله إياهم في معانيه
وإيماناً وتصديقاً وطاعة وانقياداً واقتداء واتباعا
مع ما يقترن بذلك من قوة عقلهم وقياسهم وتمييزهم وعظيم مكاشفاتهم ومخاطباتهم
فإنهم أسد الناس نظراً وقياساً ورأيا , وأصدق الناس رؤيا وكشفا
أفلا يعلم من له أدنى عقل ودين أن هؤلاء أحق بالصدق والعلم والإيمان والتحقيق ممن يخالفهم
وأن عندهم من العلوم ما ينكرها الجاهل والمبتدع , والذي عندهم هو الحق المبين
وأن الجاهل بأمرهم والمخالف لهم هو الذي معه من الحشو ما معه ومن الضلال
وهذا باب يطول شرحه ..

* فقد تبين أن الذي يسمي هؤلاء يعني أهل الحديث وأئمتهم حشوية هم أحق بكل وصف مذموم يذكرونه .
وأئمة هؤلاء يعني أهل الحديث هم أحق بكل علم نافع وتحقيق وكشف حقائق واختصاص بعلوم لم يقف عليها هؤلاء الجهال المنكرون عليهم , المكذبون لله ورسوله

* ولا ريب أن أهل الحديث : أعلمُ الأمة , وأخصها بعلم الرسول , وعلم خاصته مثل : الخلفاء الراشدين , وسائر العشرة , ومثل : أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود , ومعاذ بن جبل , وعبد الله بن سلام , وسلمان الفارسي , وأبي الدرداء , وعبادة بن الصامت , وأبي ذر الغفاري , وعمار بن ياسر , وحذيفة بن اليمان , ومثل : سعد بن معاذ , وأسيد بن حضير , وسعد بن عبادة , وعباد بن بشر , وسالم مولى أبي حذيفة , وغير هؤلاء ممن كان أخص الناس بالرسول وأعلمهم بباطن أموره وأتبعهم لذلك .
فعلماء الحديث أعلم الناس بهؤلاء وببواطن أمورهم وأتبعهم لذلك , فيكون عندهم العلم : علم خاصة الرسول وبطانته .

* ومن المستقر في أذهان المسلمين أن ورثة الرسل , وخلفاء الأنبياء هم الذين قاموا بالدين علماً وعملاً ودعوة إلى الله والرسول , فهؤلاء أتباع الرسل حقاً .
وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الأرض التي زكت , فقبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير فزكت في نفسها وزكى الناس بها
وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين , والقوة على الدعوة
 ولذلك كانوا ورثة الأنبياء الذين قال الله تعالى فيهم : { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ }
فالأيدي : القوة في أمر الله , والأبصار : البصائر في دين الله .
فبالبصائر يدرك الحق ويُعرف , وبالقوة يُتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه
فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ والفهم والفقه في الدين والبصر بالتأويل , ففجرت من النصوص أنهار العلوم , واستنبطت منها كنوزها , ورزقت فيها فهماً خاصاً .
كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد سئل : هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس ؟
فقال : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة , إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه .
فهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ والعشب الذي أنبتته الأرض وهو الذي تميزت به هذه الطبقة عن الثانية , وهي التي حفظت النصوص .
فكان همها حفظها وضبطها , فوردها الناس وتلقوها بالقبول , واستنبطوا منها واستخرجوا كنوزها , واتجروا فيها وبذروها في أرض قابلة للزرع والنبات
 ووردوها كلٌّ بحسبه { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ }
 وهؤلاء هم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : [ نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فربَّ حامل فقه وليس بفقيه , وربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه ]
وهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهم حبر الأمة وترجمان القرآن مقدار ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلغ نحو العشرين حديثاً الذي يقول فيه : [ سمعت ] و [ رأيت ] وسمع الكثير من الصحابة وبورك له في فهمه والاستنباط منه , حتى ملأ الدنيا فهماً وعلماً
قال أبو محمد بن حزم : [ وجمعت فتاواه في سبعة أسفار كبار ] ( تنبيه : قال المحقق : هذا وهم من الشيخ وذكر نص ابن حزم وهو مختلف تماما – حاشية ص 139 )
وهي بحسب ما بلغ جامعها , وإلا فعلم ابن عباس كالبحر , وفقهه واستنباطه وفهمه بالقرآن بالموضع الذي فاق به بالناس , وقد سمعوا ما سمع , وحفظوا القرآن كما حفظه
ولكن أرضه كانت من أطيب الأراضي وأقبلها للزرع فبذر فيها النصوص فأنبتت من كل زوج كريم { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }

* هكذا ورثتهم من بعدهم اعتمدوا في دينهم على استنباط النصوص , لا على خيال فلسفي , ولا رأي قياسي , ولا غير ذلك من الآراء المبتدعات
لا جرم كانت الدائرة والثناء والصدق والجزاء العاجل والآجل لورثة الأنبياء التابعون لهم في الدنيا والآخرة , فإن المرء على دين خليله { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ }

* ونحن لا نعني بأهل الحديث : المقتصرون على سماعه أو كتابته وروايته , بل نعني بهم : كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهراً وباطناً , واتباعه باطناً وظاهراً , وكذلك أهل القرآن .
وأدنى خصلة في هؤلاء : محبة القرآن والحديث , والبحث عنهما وعن معانيهما , والعمل بما علموه من موجبهما .

* فقهاء الحديث أخبرُ بالرسول صلى الله عليه وسلم من فقهاء غيرهم , وصوفيتهم ( يعني زهادهم ) أتبع للرسول من صوفية غيرهم , وأمراؤهم أحق بالسياسية النبوية من غيرهم , وعامتهم أحقُّ بموالاة الرسول صلى الله عليه وسلم من غيرهم


*  وحدثني ثقة أنه تولى مدرسة مشهد الحسين بمصر بعضُ أئمة المتكلمين رجل يسمى شمس الدين الأصبهاني شيخ الأيكي , فاعطوه جزءاً من الربعة فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم المص ! حتى قيل له : ألف لام ميم ص !
فتأمل هذه الحكومة العادلة ليتبين لك أن الذين يعيبون أهل الحديث ويعدلون عن مذهبهم : جهلة زنادقة منافقون بلا ريب !


* لما بلغ الإمام أحمد عن ابن أبي قتيلة أنه ذكر عنده أهل الحديث بمكة فقال : قوم سوء , فقام الإمام أحمد وهو ينفض ثوبه , ويقول : زنديق , زنديق , زنديق , ودخل بيته
فإنه عرف مغزاه , وعيب المنافقين للعلماء بما جاء به الرسول قديم من زمن المنافقين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم
وأما أهل العلم فكانوا يقولون : هم الأبدال , لأنهم أبدال الأنبياء أو قائمون مقامهم حقيقة ليسوا من المعدومين الذين لا يعرف لهم حقيقة , كلٌّ منهم يقوم مقام الأنبياء في القدر الذي ناب عنهم فيه , هذا في العلم والمقال , وهذا في العبادة والحال , وهذا في الأمرين جميعاً
وكانوا يقولون : هم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة , الظاهرين على الحق , لأن الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسله معهم , وهو الذي وعد الله بظهوره على الدين كله وكفى بالله شهيداً .

* المخالف لعلماء الحديث علماً وعملاً : إما جاهل , وإما منافق , والمنافق جاهل وزيادة كما سنبينه إن شاء الله , والجاهل هنا فيه شعبة من نفاق وإن كان لا يعلم بها , فالمنكر لذلك جاهل منافق .

* فإن ادعوا أنه لم يكن في خاصة أصحاب الرسل من يمكنه فهم ذلك ( يعني الكلام والفلسفة ) جعلوا السابقين الأولين دون المتأخرين في العلم والإيمان , وهذا من مقالات الزنادقة .
لأنه جعل بعض الأمم الأوائل من اليونان والهند ونحوهم أكمل عقلا وتحقيقا للأمور الإلهية والمعادية , من هذه الأمة , فهذا من مقالات المنافقين , إذ المسلمون متفقون على أن هذه الأمة خير الأمم وأكملهم , وأن أكمل هذه الأمة وأفضلها سابقوها
وإذا سلم ذلك , فأعلمُ الناس بالسابقين وأتبعهم لهم هم أهل الحديث وأهل السنة .

* ولهذا ذكر العلماء أن الرفض أساس الزندقة , وأن أول من ابتدع الرفض إنما كان منافقاً زنديقاً , وهو ابن سبأ .
فإنه إذا قدح في [ السابقين الأولين ] فقد قدح في نقل الرسالة , أو في فهمها , أو في اتباعها
فالرافضة تقدح تارة في علمهم بها  , وتارة في اتباعهم لها , وتحيل ذلك على أهل البيت ! والمعصوم الذي ليس له وجود في الوجود !

* فالصحابة كانوا يعلمون ما جاء به الرسول , وفيما جاء به بيان الحجة على بطلان كفر كل كافر , وبيان ذلك بقياس صحيح , أحقُّ وأحسنُ بيانا من مقاييس أولئك الكفار
كما قال تعالى { وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا }
 أخبر سبحانه أن الكفار لا يأتونه بقياس عقلي لباطلهم إلا جاءه الله بالحق , وجاء من البيان والدليل وضرب المثل بما هو أحسن تفسيراً وكشفاً وإيضاحاً للحق من قياسهم
وجميع ما تقوله الصابئة والمتفلسفة وغيرهم من الكفار من حكم أو دليل , يندرج فيما علمه الصحابة


* فسنة خلفاءه الراشدين هي مما أمر الله به ورسوله , وعليه أدلة شرعية مفصلة .


* وهكذا إذا تدبر المؤمن العليم سائر مقالات الفلاسفة وغيرهم من الأمم التي فيها ضلال وكفر , وجد القرآن والسنة كاشفاً لأحوالهم مبيناً لحقهم مميزاً بين حق ذلك وباطلة .
والصحابة كانوا أعلم الخلق بذلك ,  كما كانوا أقوم الخلق بجهاد الكفار والمنافقين
 كما قال فيهم عبد الله بن مسعود : [ من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات , فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة , أولئك أصحاب محمد كانوا أبر هذه الأمة قلوباً , وأعمقها علماً , وأقلها تكلفاً , قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه , فاعرفوا لهم حقهم , وتمكسوا بهديهم , فإنهم كانوا على الهدي المستقيم ]
فأخبر عنهم بكمال برِّ القلوب , مع كمال عمق العلم , وهذا قليل في المتأخرين .


* وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا مع أنهم أكمل الناس علماً نافعاً وعملاً صالحاً أقل الناس تكلفاً , تصدر عن أحدهم الكلمة والكلمتان من الحكمة أو المعارف ما يهدي الله به أُمة , وهذا من منن الله على هذه الأمة .
وتجد غيرهم يحشو الأوراق من التكلفات والشطحات ما هو من أعظم الفضول المبتدعة والآراء المخترعة , لم يكن لهم في ذلك سلف إلا رعونات النفوس المتلقّاة ممن ساء قصده في الدين .
* فدل الكتاب والسنة على أن الله يؤتي أتباع هذا الرسول من فضله ما لم يؤتيه لأهل الكتابين قبلهم , فكيف بمن هو دونهم من الصابئة .

* ومن المعلوم أن أهل الحديث والسنة أخصُّ بالرسول وأتباعه , فلهم من فضل الله وتخصيصه إياهم بالعلم والحلم وتضعيف الأجر ما ليس لغيرهم , كما قال بعض السلف : [ أهل السنة في الإسلام , كأهل الإسلام في الملل ]

* والمقصود : التنبيه على أن كلّ من زعم بلسان حاله أو مقالة أن طائفة غير أهل الحديث أدركوا من حقائق الأمور الباطنة الغيبية في أمر الخلق والبعث , والمبدأ والمعاد , وأمر الإيمان بالله واليوم الآخر , وتعرف واجب الوجود , والنفس الناطقة , والعلوم والأخلاق التي تزكوا بها النفوس وتصلح وتكمل , فوق أهل الحديث :
فهو إن كان من المؤمنين بالرسل فهو جاهل فيه شعبة قوية من شعب النفاق , وإلا فهو منافق خالص من الذين إذا { قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ }  وقد يكون من الذين { يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } ومن الذين { يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ }

* وقد تبين بالقياس العقلي الصحيح الذي لا ريب فيه , وإن كان ذلك ظاهراً بالفطرة لكل سليم فطرة , فإنه متى كان الرسول أكمل الخلق وأعلمهم بالحقائق وأقومهم قولاً وحالاً , لزم أن يكون أعلم الناس به  , أعلم الخلق بذلك , وأن يكون أعظمهم موافقة له واقتداء به : أفضل الخلق .
ولا يقال أن هذه الفطرة يغيرها ما يوجد في بعض المنتسبين إلى السنة والحديث من تفريط وعدوان , فيقال : إن ذلك في غيرهم أكثر , والواجب مقابلة الجملة بالجملة في المحمود والمذموم , هذه هي المقابلة العادلة .
وإنما غير الفطرة : قلة المعرفة بالحديث والسنة واتباع ذلك , مع ما يوجد في المخالفين لها من نوع تحقيق لبعض العلم وإحسان لبعض العمل , فيكون ذلك شبهة في قبول غيره وترجيح صاحبه .


* فاتباع سبيل المعتزلة دون سبيل سلف الأمة ترك للقول السديد الواجب في الدين واتباع لسبيل المبتدعة الضالين .

* لا عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه , بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق , فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقاً .

* وأما أهل الحديث , فإنما تذكر مذاهب السلف بالنقول المتواترة , تارة يذكرون من نقل مذهبهم من علماء الإسلام , وتارة يروون نفس قولهم في هذا الباب , كما سلكناه في جواب الاستفتاء
فإنا لما أردنا أن نبين مذهب السلف ذكرنا طريقين :
- أحدهما : أنا ذكرنا ما تيسر من ألفاظهم ومن روى عنهم ذلك من أهل العلم بالأسانيد المعتبرة .
- والثاني : ذكرنا من نقل مذهب السلف من جميع طوائف المسلمين , من طوائف الفقهاء الأربعة ومن أهل الحديث والتصوف وأهل الكلام كالأشعري وغيره .
فصار مذهب السلف منقولا بإجماع الطوائف وبالتواتر , لم نثبته بمجرد دعوى : الإصابة لنا والخطأ لمن خالفنا ! كما يفعل أهل البدع !

* شعار أهل البدع هو ترك انتحال اتباع السلف , ولهذا قال الإمام أحمد في رسالة عبدوس بن مالك : [ أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ]

* لكن كل من كان بالحديث من هؤلاء أعلم , كان بمذهب السلف أعلم وله أتبع , وإنما يوجد تعظيم السلف عند كل طائفة بقدر استنانها وقلة ابتداعها .
أما أن يكون انتحال السلف من شعائر أهل البدع فهذا باطل قطعاً , فإن ذلك غير ممكن إلا حيث يكثر الجهل ويقل العلم 

* يوضح ذلك : أن كثيراً من أصحاب أبي محمد ( العز بن عبد السلام ) من اتباع أبي الحسن الأشعري يصرحون بمخالفة السلف
في مثل : [ مسألة الإيمان ] و [ مسألة تأويل الآيات والأحاديث ]
يقولون : [ مذهب السلف أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص , وأما المتكلمون من أصحابنا فمذهبهم كيت وكيت ] !
وكذلك يقولون : [ مذهب السلف أن هذه الآيات والأحاديث الواردة في الصفات لا تتأول , والمتكلمون يرون تأويلها إما وجوباً وإما جوازاً ]
ويذكرون الخلاف بين السلف وبين أصحابهم المتكلمين !
هذا منطوق ألسنتهم , ومسطور كتبهم ..
أفلا عاقل يعتبر , ومغرور يزدجر !
السلف ثبت عنهم ذلك حتى بتصريح المخالف , ثم يُحدث مقالة تخرج عنهم ؟!
أليس هذا صريحاً أن السلف كانوا ضالين عن التوحيد والتنزيه , ودلّه المتأخرون !
هذا فاسد بضرورة العقل الصحيح والدين المتين ..

* ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة , وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف , أن خير قرون هذه الأمة في الأعمال والأقوال والاعتقاد وغيرها من كل فضيلة
 أن خيرها القرن الأول , ثم الذين يلونهم , ثم الذين يلونهم كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه .
وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة من علم وعمل وإيمان وعقل ودين وبيان وعبادة , وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل .
هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام , وأضله الله على علم
كما قال عبد الله بن مسعود : [ من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات , فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة , أولئك أصحاب محمد أبرُّ هذه الأمة قلوباً , وأعمقها علماً , وأقلها تكلفاً , قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه , فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم , فإنهم كانوا على الهدي المستقيم ]
وقال غيره : [ عليكم بآثار من سلف فإنهم جاؤوا بما يكفي وما يشفي ولم يحدث بعدهم خيرٌ كامن لم يعلموه ]
هذا , وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : [ لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم ] فكيف يحدث لنا زمان في الخير في أعظم المعلومات وهو معرفة الله تعالى ؟! هذا لا يكون أبداً .
وما أحسن ما قال الشافعي رحمه الله في رسالته : [ هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل , وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى , ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا ]

* عامة ما عند السلف من العلم والإيمان ما استفادوه من نبيهم صلى الله عليه وسلم الذي أخرجهم الله به من الظلمات إلى النور , وهداهم إلى صراط العزيز الحميد .

* ( الحنابلة ) أقل الطوائف تنازعاً وافتراقاً , لكثرة اعتصامهم بالسنة والآثار , ولأن للإمام أحمد في باب أصول الدين من الأقوال المبينة لما تنازع فيه الناس ما ليس لغيره , وأقواله مؤيدة بالكتاب والسنة واتباع سبيل السلف الطيب , ولهذا كان جميع من ينتحل السنة من طوائف الأمة وفقهائها ومتكلمتها وصوفيتها ينتحلونه .

* وأما أهل الجهل والضلال الذين لا يعرفون ما بعث الله به الرسول صلى الله عليه وسلم  , ولا يميزون بين صحيح المنقول وصريح المعقول  وبين الروايات المكذوبة والآراء المضطربة , فأولئك جاهلون قدر الرسول صلى الله عليه وسلم والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين نطق بفضلهم القرآن 
 فهم بمقادير الأئمة المخالفين لهؤلاء أولى أن يكونوا جاهلين إذ كانوا أشبه بمن شاق الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين من أهل العلم والإيمان , وهم في هذه الأحوال إلى الكفر أقرب منهم للإيمان .

* وتجد عامة أهل الكلام ومن أعرض عن جادة السلف إلا من عصم الله , يعظمون أئمة الاتحاد , بعد تصريحهم في كتبهم بعبارات الاتحاد , ويتكلفون لها محامل غير ما قصدوه ولهم في قلوبهم من الإجلال والتعظيم والشهادة بالإمامة والولاية لهم وأنهم أهل الحقاق , ما الله به عليم !

* ولهذا كان السلف يسمون أهل البدع والتفرق المخالفين للكتاب والسنة : أهل الأهواء , حيث قبلوا ما أحبوه , وردوا ما أبغضوه بأهوائهم بغير هدى من الله .

* وأما نقل المعترض عن أبي الفرج ( ابن الجوزي  ) : كأنهم يخاطبون الأطفال !
فلم تخاطب الحنابلة إلا بما ورد عن الله ورسوله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان , الذين هم أعرف بالله وأحكامه .
وسلمنا لهم أمر الشريعة , وهم قدوتنا فيما أخبروا عن الله وشرعه , وقد أنصف من أحال عليهم
وقد شاقق من خرج عن طريقهم , وادعى أن غيرهم أعلم بالله منهم , أو أنهم علموا وكتموا !
أو أنهم لم يفهموا ما أخبروا به , وأن عقل غيرهم في باب معرفة الله أتم وأكمل وأعلم مما نقلوه وعقلوه , وقد قدمنا ما فيه كفاية في هذا الباب , والله الموفق , ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور ...

* ليس في القرون الثلاثة من هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس - وأفضلها القرون الثلاثة من كان يلتفت إلى المنطق أو يعرج عليه , مع أنهم في تحقيق العلوم وكمالها بالغاية التي لا يدرك أحد شأوها , كانوا أعمق الناس علماً , وأقلها تكلفاً , وأبرها قلوباً , لا يوجد لغيرهم كلام فيما تكلموا فيه إلا وجدت بين الكلامين من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق
( يعني قدم الإنسان –رجله-  وفرق رأسه من الأعلى )
* أما الأنبياء فلا ريب في استغنائهم عنها ( يعني حدود أهل الكلام ) وكذلك أتباع الأنبياء من العلماء والعامة , فإن القرون الثلاثة من هذه الأمة الذين كانوا أعلم بني آدم علوماً ومعارف , لم يكن تكلف هذه الحدود من عاداتهم , لم يبتدعوها ولم تكن عربت الكتب الأعجمية الرومية لهم وإنما حدثت من المتكلمين والفلاسفة , ومن حيث حدثت فيهم صار بينهم من الاختلاف والجهل ما لا يعلمه إلا الله .

والحمد لله رب العالمين ...

مصوراً


جميع الحقوق محفوظة لمدونة عبد الله بن سليمان التميمي ©2013-2014 | |