خطبة ( 3 ) : الصيام جُنة ...

الصيام جُنّة

الحمد لله رب العالمين ...
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه , كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه
الحمد لله على نعمة الإسلام والتوحيد , الحمد لله على الطاعات المقربة إليه , وعلى مكفرات الذنوب التي جعلها لعباده تطهيراً لهم من أدران الآثام والمعاصي
الحمد لله من قبل ومن بعد , الحمد لله ملء السموات وملء الأرض وملء ما شاء من شيء بعد .
أما بعد : فقد شرع الله عزوجل لعباده عبادات كثيرة تقربهم إليه وتبعدهم من عذابه بفضل منه ورحمة وشرع لهم من الفروض والنوافل المكملات للفروض والتي تزيد من تقرب العبد لربه ما لا يحصى من الصلاة والذكر والصدقة والصيام والحج والعمرة وصولا للكلمة الطيبة والتبسم في وجه أخيك وكف الأذى وإماطة الأذى عن الطريق وغير ذلك
وشرع لهم مواسم الخير كموسم الحج وصيام الأثنين والأيام البيض وعاشوراء
وجعل لهم لهم عيدين في كل عام وعيد في كل أسبوع وهو يوم الجمعة فخصه بخصائص كثيرة منها : الاغتسال والطيب والأجر على ذلك , والخطبة والدعاء , وفيه ساعة مباركة يستجاب فيها الدعاء والصلاة قبل خروج الإمام وغير ذلك
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها , كل ذلك رحمة منه وفضل جل وعلا وإقامة للحجة على عباده أجمعين وقد خاب وخسر من فاتته كل هذه النفحات السماوية المقربة لرب السماء والأرض
ومما شرع لنا الصيام سواء كان نافلة أو الصيام المفروض في شهر رمضان
قال صلى الله عليه وسلم : [ الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ]
جنة : يعني الشيء الذي يتقى ويحتمى به والمعنى جنة من النار
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : [ الصيام جُنة حصينة ] وقال : [ الصوم جُنة من النار ]
وقال صلى الله عليه وسلم : [ فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ ]
فجعل الصيام كفارة لما يحصل للمسلم من ابتلاء في ماله وولده ودنياه
وقال صلى الله عليه وسلم : [ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ ]
فمن عظيم فضل الصيام جعل له باباً خاصاً في الجنة جعلنا الله وإياكم من أهله
وقال صلى الله عليه وسلم : [ إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ ]
وإذا فتحت أبواب السماء نزلت الرحمات
وقال صلى الله عليه وسلم : [ إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ ]
ومن عظم فضل الصيام جعل الله عزوجل فيه ليلة القدر هي خير من ألف شهر والعبادة فيها مضاعفة الأجر
قال صلى الله عليه وسلم : [ مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ]
فأي فضل أكبر من هذا والله عزوجل المتفضل بهذا الأجر كله فله الحمد وله الثناء الحسن
وقال صلى الله عليه وسلم : [ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ ]
جعلنا الله وإياكم ممن فرح بصومه يوم نلقاه جل وعلا
ومن فوائد الصوم أنه وجاء ومانع من المعاصي والتفكير بالحرام لمن صام حقاً وأكمل صيامه
قال صلى الله عليه وسلم : [ مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ ]
وقد ذكر الله عزوجل صفات المؤمنين فذكر منهم { السائحون } قال أهل القرآن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم : [ السائحون هم الصائمون ]
والصيام من مباني الإسلام الخمس
وقال حذيفة رضي الله عنه : [ الإسلام ثمانية أسهم , وذكر منهما : والصيام سهم ]
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : [ سيد الشهور رمضان ]
ومما جاء في استقبال رمضان : كَانَ التابعي  يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ يَدْعُو حَضْرَةَ شَهْرِ رَمَضَانَ : [  اللَّهُمَّ سَلِّمْنِي لِرَمَضَانَ وَسَلِّمْ لِي رَمَضَانَ وَتَسَلَّمْهُ مِنِّي مُتَقَبَّلًا . ]
وكان التابعي مكحول يقول : [ إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ: اللَّهُمَّ سَلِّمْنِي لِرَمَضَانَ، وَسَلِّمْ رَمَضَانَ لِي، وَتَسَلَّمْهُ مِنِّي مُتَقَبَّلًا ]
ومن سنن رمضان تأخير السحور وتعجيل الفطور صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان عمر يقول لا يزالون بخير ما فعلوا ذلك .
وشهر رمضان شهر عظيم عظمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعظمه أولياء الله الصالحون
[ أُتِيَ علي رضي الله عنه برجل سَكْرَان مِنَ الْخَمْرِ فِي رَمَضَانَ ، فَتَرَكَهُ حَتَّى صَحَا ، ثُمَّ ضَرَبَهُ ثَمَانِينَ ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ إِلَى السِّجْنِ ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنَ الْغَدِ فَضَرَبَهُ عِشْرِينَ .
 فَقَالَ : ثَمَانِينَ لِلْخَمْرِ ، وَعِشْرينَ لِجُرْأَتِكَ عَلَى اللهِ فِي رَمَضَانَ ]
قال الإمام أحمد : أنا أذهب إليه ( يعني أفتي بأن يفعل به كما صنع علي رضي الله عنه )
فلا يستهان بالمعاصي في رمضان فإنها أعظم وأعظم لاسيما إن كانت مع مجاهرة فهذه جرأة على الله كما قال علي رضي الله عنه , نعوذ بالله من الخذلان .
ومن فضل الله على الناس أن شرع لهم قيام الليل في رمضان جماعة صلاها رسول الله        صلى الله عليه وسلم ثلاث ليال ثم خاف أن تفرض على الناس فيعجزون فتركها , ثم لما استقر الأمر وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم صلها الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام جيلا بعد جيل يزيدون في ركعاتها وينقصون لا يعيب أحد على أحد والأمر فيها واسع إن شاء الله
كان عمر والصحابة يصلون عشرين ركعة وكان بعض أهل المدينة يصلي ستاً وعشرين
وكان بعض أهل العراق يصلي ست ترويحات والترويحة أربع ركعات
وكان بعضهم يصلي بخمس وعشرين آية في الركعة كسعيد بن جبير وغيره وبعضهم يصلي بثلاثين ويزيد عن ذلك كأيوب وبعض تابعي البصرة
وقال زيد بن وهب رحمه الله : [ كَانَ عَبْدُ اللهِ ( يعني ابن مسعود )  يَؤُمُّنَا فِي رَمَضَانَ , وَيَنْصَرِفُ وَعَلَيْهِ لَيْلٌ ] يعني يصلي بهم أول الليل وينصرف والليل موجود
وكانَ سَعيدُ بن جُبَيرٍ  [ يُصَلّي العَتَمَةَ ( العشاء )  في رَمَضانَ , ثُمَّ يَرجِعُ فَيَمكُثُ هُنَيهَةً , ثُمَّ يَرجِعُ فَيُصَلّي بِنا سِتَّ تَرويحاتٍ , ويوتِرُ بِثَلاَثٍ , ويَقنُتُ ( يعني يدعو )  بِقَدر خَمسينَ آيَةً ]

وكانوا يختمون في رمضان ويزيدون في قراءة القرآن صح ذلك عن أصحاب ابن مسعود وغيرهم من كبار التابعين
قال سلام بن أبي مطيع : [ كَانَ قتادة يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً ، فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ خَتَمَ فِي كُلِّ ثَلَاثِ لَيَالٍ مَرَّةً ، فَإِذَا جَاءَ الْعَشْرُ خَتَمَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مَرَّةً . ]
وقتادة وغيره من التابعين كانوا علماء في التفسير والقرآن يعرفون معناه آية آية , وأما غيرهم فيستحب له أن يتدبر ويتعلم ويقرأ في التفاسير الأثرية كتفسير ابن أبي حاتم فإنه سهل مختصر
ومما شرع في رمضان الإعتكاف خصوصاً في العشر الأواخر
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ  [ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ ]
وعن عائشة رضي الله عنهم قالت : [ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ ]
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : [ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ فَاعْتَكَفَ عَامًا حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنْ اعْتِكَافِهِ قَالَ مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ ]
ومما شرع الله عزوجل رحمة بعباده لمن عجز عن الصيام أن يفطر ويقضي الصيام إذا قدر وإن شاء قضى متتابعاً أو متفرقاً ومن لم يقدر أطعم عن كل يوم مسكين والمسافر يستحب له الفطر وإن صام أجزأ عنه والله أعلم
ومما يشرع فيه  صدقة الفطر في آخر صاع من شعير أو تمر أو غير ذلك من قوت البلد يخرج الرجل عن نفسه وأهل بيته ومن يعول صدقة تطهرهم وتزكيهم وتنفعهم في آخرتهم
والحمد لله رب العالمين ...

الحمد لله واهب النعم يذكر من ذكره , ويشكر من شكر , ولا يضره من كفره
الحمد لله كله والشكر له كله أحمده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه
أما بعد : فمن  آداب الصيام وضروراته : أن يحتسب الصائم فلا يرفث ولا يفسق ولا يشاتم
 ولا ينطق بالزور والنهار والليل في الصيام سواء فليس له أن يفعل ذلك بالليل فشهر رمضان عظيم كله ليله ونهاره وهو تربية للمسلم يضغط على نفسه في هذا الشهر حتى يعتاد على طهارة القلب واللسان
قال صلى الله عليه وسلم : [ مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ]
وقال التابعي إبراهيم النخعي [ كانوا يقولون الكذب يفطر الصائم ] يعني أصحاب ابن مسعود كبار التابعين  كانوا يعدون الكاذب في رمضان كالذي أفطر أذهب أجره وصيامه
ومما يشرع له في رمضان :  السواك , وكرهه بعض السلف بعد العصر لأن خلوف الفم أطيب عند الله من ريح المسك , وكره بعض السلف السواك الرطب الذي فيه ماء
وكان عمر من أدوم الناس سواكاً وهو صائم وصح عن غيره أيضاً
وكان عبد الله بن عمر يكثر من اللحم في رمضان لأنه أقوى للجسد ومعيناً على القيام , وليس المراد التخمة منه إنما أن يقوي جسده على الطاعة في هذا الشهر الفضيل
وقال الحسن البصري لرجل : [صم ولا تبغ في صومك قيل: وما بغيي في صومي؟
قال: أن يقول الرجل: ارفعوا لي كذا، ارفعوا لي كذا، فإني أريد الصوم غدا ]
يعني تجعل تفكيرك في الطعام والشراب وتنسى العبادة والفضل فجعل الحسن رضي الله عنه هذا  من البغي لأنك ذهب بهذه العبادة لغير مقصدها , نسأل الله عزوجل أن يتغمدنا برحمة منه وفضل ويجعلنا من عباده الصالحين
للَّهُمَّ سَلِّمْنِا لِرَمَضَانَ، وَسَلِّمْ رَمَضَانَ لِنا، وَتَسَلَّمْهُ مِنِّا مُتَقَبَّلًا
اللهم اجعله شهر الرحمة والبركة والخير على المسلمين
اللهم اجعل لنا في مغفرة وطهرة من الذنوب
واجعلنا به من عبادك الصالحين
اللهم اكتبنا في دواوين من غفرت لهم فيه , ومن كتبت لهم الجنة والرحمة والمغفرة
يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين
اللهم صل على محمد وعلى آله محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد
وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد
اللَّهمّ اسْتَعْمِلْنَا لِسُنَّتِهِ وَأَوْزِعْنَا هَدْيَهُ، اللَّهمّ اجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا
اللهم أمتنا على التوحيد والسنة غير ضالين ولا مضلين برحمتك يا أرحم الراحمين
والحمد لله رب العالمين ...


جميع الحقوق محفوظة لمدونة عبد الله بن سليمان التميمي ©2013-2014 | |